الفكر وإعمال العقل وتدبر الكون واستنباط القوانين الاجتماعية والاقتصادية التي تتشكل من رحم التطورات المختلفة, والتكيف الايجابي مع الظواهر الكبري التي تفرض نفسها علي الجميع, كالعولمة وتشابك المجتمعات والأسواق وثورة الاتصالات والتقدم التكنولوجي المتسارع الذي يبدو منطلقا بلا قيود من أي نوع وهي ظواهر نعيش في ظلها وتحت رحمتها بحلوها ومرها, سواء شاركنا في صنعها أو تغيبنا عن هذه المشاركة واكتفينا بمجرد الفرجة والمشاهدة ولعن التقدم بأشكاله المختلفة, ومنا ـ للأسف الشديد ـ من يتمسك بأن يستمر علي حالته المتدنية ووضعه المتأخر في طابور الأمم. نفعل ذلك في حين أن الذين صنعوا وطوروا هذه الظواهر الكبري يعملون علي تغييرها وتبديلها وتحسينها والاستفادة القصوي من كل نتائجها ومنجزاتها. وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الذين يعملون والذين لا يعملون.
لا ينكر احد أن الإسلام بني أساسا علي إعمال العقل والتفكر المستمر فيما يطرأ من مستجدات, وأن دعوته الأولي للإنسان تمثلت في القراءة والقلم, وهما عنصرا بناء التقدم وفهم الكون. ويشكل العلم بمعناه الواسع والسعي إليه ركنا أساسيا من أركان الإيمان, وفي كثير من الآيات الواردة في القرآن الكريم تأكيد علي أن الذين يعلمون هم الأفضل وان الذين لا يعلمون هم الأدني. ولا ينكر أحد أيضا أن المجتمعات الإسلامية في عمومها لم تكن لتتخلف إلا بعد أن أهملت العلم, واكتفت باستهلاك ما ينتجه الآخرون, واعتبرت أن وظيفتها الكبري هي مجرد استنساخ خبرات تاريخية قديمة بنصها وروحها, فأهملت العقل واكتفت بالنقل, واعتبرت أن كل ما يختلف عن حياة الأوائل من المسلمين ليس من الدين, أو علي الأقل يناهض بعض أسسه.
ولا ينكر أحد أن حياة الأوائل من المسلمين مليئة بالدروس التي تساعد علي فهم مفاتيح معينة من التفسيرات الفقهية وبعض الأحكام التي تتعلق بصحيح الإيمان, ولكنها أيضا ليست هي كل شئ خاصة أن الحياة البشرية بخبراتها المتنوعة غير المحدودة تثير الكثير من القضايا والإشكاليات الفكرية والعملية التي لم تكن منصورة في حياة الأوائل من المسلمين. وهو ما يفسر تلك المسميات الجديدة من الفقه التي يقول بها بعض الشيوخ المحدثين المطلعين علي حياة المسلمين المتداخلة مع تطورات الحياة الحديثة والمعقدة, مثل فقه الأولويات وفقه المقاصد وفقه التعايش مع غير المسلمين سواء في بلدانهم أو في بلدان مختلطة.
إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني ولكي تكون عملية فعالة ومثمرة يجب ألا تكون مجرد اجتهادات لعلماء أجلاء وحسب كل علي حسب ما يراه ضروريا بحكم اللحظة التاريخية, أو تكون محصورة في أمور جزئية وظواهر عارضة. رغم أهمية ذلك وضرورته أحيانا. وأتصور أنها تتطلب حركة تجديد شاملة تتضمن عمل المؤسسات الدينية التعليمية والبحثية والمنوط بها إصدار الفتاوي واستنباط الأحكام الكبري وإعادة تشكيل العقل المسلم لكي يكون مؤمنا منتجا ومطورا ومبدعا, وفي المقدمة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وكافة المؤسسات المعنية بالخطاب الديني. وهو أمر يتطلب بدوره أيضا إعادة نظر جذرية في طريقة تدريب وتجنيد الدعاة الجدد الذين يمثلون حلقة الوصل الأكبر بين المسلمين العاديين وبين فهم مقاصد الدين وأحكامه, والذين يقومون علي شئون المساجد.
إذ من غير المعقول في زمننا هذا أن يكون هم بعض هؤلاء الدعاة الجدد صغار السن وقليلي التجربة أن يزايدوا علي بعضهم البعض ـ لاسيما في المساجد المتجاورة ـ في مكبرات الصوت حين الآذان أو إقامة الصلاة بما في ذلك الإمعان في إعلاء الصوت بلا مبرر حين الصلاة الجهرية وتصور ان ذلك يرضي المصلين ويزيد من خشوعهم, أو يعتبروا أن استخدام المكبرات في إقامة الصلاة هو شرط لازم لاكتمالها رغم أن العهد النبوي لم يعرف فيه هذه التقنية قط, أو أن يشيعوا بين المسلمين أن بالإمكان أن يفتح المرء أجهزة الراديو علي إذاعة القرآن الكريم, حتي ولو كان مشغولا بعمل آخر كالمذاكرة مثلا أو القيام بعمل مهني يتطلب نوعا من التركيز خشية التعرض لسوء, وعدم الاعتداد بالأمر الرباني بأن الاستماع إلي القرآن يتطلب الاستماع والإنصات التام, وذلك تحت زعم أن الجن في هذه الحالة هم الذين يستمعون إلي القرآن الكريم. أو أن يتصوروا أن كل ما عليهم هو مجرد العودة إلي كتب الأقدمين لإعادة تقديم ما فيها من تفسيرات وأحكام علي مجريات الحياة الراهنة رغم البون الشاسع بين زمن هذه الكتب وبين واقع الحياة المعاصرة, أو يروا في الأحاديث الضعيفة السند أساسا لاستنباط فتاوي لأمور معقدة تتطلب طريقة جديدة تماما في الحكم علي الأشياء.
هؤلاء هم نتاج عملية تنشئة تعليمية قاصرة بكل المقاييس, وهم الأجدر بأن يكونوا في قلب اي تجديد للخطاب الديني, شأنهم في ذلك شأن المتلقين, أي المسلمين العاديين, الذي هم بحاجة إلي هزة كبري لكي يفيقوا من سباتهم وأن يعلموا أنهم محاسبون علي تقصيرهم في حق أنفسهم نتيجة كسلهم الفكري والإيماني معا. إن تجديد الخطاب الديني هو حركة فكرية دينية شاملة, عليها أن تراعي أعمال الإيمان كرافعة لنهضة الأمة من كبواتها التاريخية والمعاصرة, حتي تكون جديرة بالحكم الألهي بأنها خير أمة أخرجت للناس.عن صحيفة الاهرام المصرية
موضوع: تجديد الخطاب الديني.. مسئولية الأمة 
الثلاثاء أكتوبر 23 2007, 12:54
